استقبل سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في دار الفتوى الرئيس فؤاد السنيورة والوزير السابق خالد قباني، وبعد اللقاء قال الرئيس السنيورة: كالعادة الزيارة إلى هذا الصرح ومقابلة سماحته كانت مناسبة طيبة للتباحث في مختلف الشؤون والشجون اللبنانية والعربية والإسلامية. وكالعادة شملت هذه الزيارة الحديث عدداً من النقاط الأساسية التي تهمّ اللبنانيين، ويعاني جراءها اللبنانيون والمسلمون الكثير. كما تطرق الحديث إلى ما يجري من تطوّرات على صعيد المنطقة والعالم من حولنا. ولقد تطرقنا في حديثنا أيضاً إلى عديد من الأمور الهامة على مختلف الصعد اللبنانية والإسلامية والعربية والدولية.إنّه مما لا شك فيه، أنَّ جميع اللبنانيين وبمن فيهم المسلمون يمرون بفترة شديدة الصعوبة بسبب الانهيارات الحاصلة على أكثر من صعيد. وكما هو معلوم، فإن هناك جملة من الاستحقاقات الكثيرة الأهمية. وكان في البدء الحديث عن موضوع تأليف الحكومة العتيدة. إذ أنّ هناك استعصاء لايزال يمارس، وبالتالي هناك جملة من العراقيل التي توضع في طريق رئيس الحكومة المكلف، بما يحول دون تأليف حكومة تستطيع أن تواجه المشكلات الكثيرة التي يعاني منها لبنان، والتي تقتضي من الجميع التعاون لتسهيل عملية تأليفها.كذلك، وكما هو معلوم، ليس هذا هو الاستحقاق الوحيد، بل هناك أيضاً استحقاقات على صعيد الانتخابات الرئاسية، والتي يفصلنا عنها قرابة 100 يوم على نهاية العهد الحالي. فانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية أمر يقتضي التبصّر ملياً فيه، إذ ينبغي علينا التقدم على المسار الحقيقي الذي نستعيد فيه الدور الحقيقي لرئيس الجمهورية في لبنان من خلال الاحترام الحقيقي والكامل للدستور، وذلك بما يبعدنا عن أي بدع أو مخالفات أو تعديل للدستور. وهذا يتطلب أن يكون الاختيار والانتخاب كما يحدده الدستور، وليس كما درجنا عليه، حيث ساد تفكير خاطئ في الماضي، وذلك بأن يكون الاختيار لـ”القوي في طائفته”. على العكس من ذلك، رئيس الجمهورية يجب ان يكون القوي لدى جميع اللبنانيين، والمقبول من قبل جميع اللبنانيين لكي يستطيع القيام بدوره الحقيقي، لأنّه رمز وحدة الوطن كما يقول الدستور، وبالتالي يقتضي أن يكون هذا الرئيس قادراً على أداء هذا الدور الوطني الكبير، وأن لا يصار إلى تقزيم الرئيس من خلال بدع وممارسات ومصالح وحصص صغيرة من هنا أو من هناك، وتؤدي في النهاية إلى أن يفشل هذا الرئيس في القيام بدوره الوطني الكبير الذي نتوقعه منه.أقول هذا مستذكراً تلك الممارسات التي شهدناها في السنوات الماضية، ولاسيما في ظل استمرار هذه الاستعصاءات والمشكلات التي تواجه لبنان في هذه المرحلة تحديداً، إذ أنَّ العالم من حولنا الآن يمر بمرحلة شديدة الصعوبة، تتطلب من الدول الصغيرة الحجم- مثل لبنان- أن تتصرف بقدر عالٍ من الحكمة والتبصر، والابتعاد عما يورطها في صراعات الآخرين. لهذا، فإنّه يجب على لبنان أن يسعى من أجل تحييد نفسه عن الاهتزازات والصدمات الآتية من الخارج، التي تنعكس سلباً على لبنان، لأنه بسبب هذه المحاور القديمة والمستجدة التي تجري في العالم الآن، فإنّ القوى الدولية تبحث عن أمكنة للنزال وللصراع، ولكي تمارس اختلافاتها وصداماتها بين بعضها بعضاً، وتكون هي المناطق الساخنة في ظل احتمال نشوء جديد لما يسمَّى الحروب الباردة الجديدة التي قد تعم العالم مع نشوء بعض المناطق الساخنة. هذا ما يدعونا أن نتنبه أن لا يكون بلدنا مكاناً من أماكن الصدامات فيما بين هذه القوى العظمى المتناحرة. وبالتالي، فإنّه ينبغي العمل الجاد من أجل النأي فعلياً بلبنان عن أن يكون في ممرات الأفيال الكبرى.هذا الأمر يتطلب حكمة شديدة على صعيد انتخاب الرئيس الجديد، وكذلك على صعيد تأليف الحكومة الجديدة، وكذلك فيما خصّ التقدم على المسارات الحقيقية لإجراء الإصلاحات التي طال انتظارنا واستعصاؤنا عن القيام بها على مدى سنوات. هذا على الرغم أنّ هذه الإصلاحات التي نحن بأمس الحاجة إليها، وهي بالفعل على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي وإداري وغير ذلك.كذلك تداولنا في عدد من الأفكار مع سماحة المفتي، حيث استعرضنا العديد من الأمور التي تتعلق بالأوضاع الإسلامية العامة. وكانت وجهات نظرنا والحمد لله متطابقة، وسيصار إلى متابعة هذه الأحاديث مع سماحته في الأيام والأسابيع القادمة.س: هل القضاء في رأيك بخطر؟ خصوصًا بعد ما شهدناه من بعض قضاة لبنان؟ج: أعتقد أنَّ من أخطر الأمور التي انحرفنا في ممارساتنا السياسية والحكومية، والتي أصبحت سمة هذا العهد في السنوات الأخيرة، وتتمثل بالميل إلى استعمال القضاء كمخلب من أجل الانتقام من الخصوم السياسيين. هذا بينما يفترض بالقضاء أن يكون نزيهاً ومنزهاً وحيادياً وبعيداً عن الانغماس في الخلافات السياسية، وأن نعمل جادين من أجل أن ننأى به عما يسمى اللعب بالقضاء.أذكر ويذكر اللبنانيون أنني عندما كنت رئيسًا للحكومة، عبَّرت عن موقفي آنذاك وبشكل صارم، أنني عندما أتسلّم مرسوم التشكيلات القضائية الجديدة، فإنني سأبادر فوراً ومباشرةً إلى توقيعها من دون أن أطلع عليها. ولم أكن في حينها أزايد على أحد في هذا الشأن. ولكنني كنت أنطلق أساساً من أنَّ القانون يوجب فعلاً على كلٍّ من وزير العدل ورئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية، أن يوقِّعوا مراسيم تلك التشكيلات القضائية، بحسب اقتراح مجلس القضاء الأعلى، وذلك لأن صلاحيات أولئك الثلاثة تصبح عند إقرارها من مجلس القضاء الأعلى صلاحيات مقيّدة، وينبغي عليهم توقيعها. ولقد وقعتها ووقعها معي وزير العدل آنذاك، ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك، وهو ما فعله أيضاً الرئيس ميشال عون خلال السنوات الماضية.أنا أروي هذه الحادثة لأؤكد على أنَّ هناك ضرورةً لتحييد القضاء وإبعاده عن الانغماس في الخلافات السياسية. وبالتالي، فإنّ هذه الممارسات التي نراها الآن وما يمارسه بعض القضاة- وعلى سبيل المثال القاضية غادة عون- ليس له علاقة لا بالقضاء ولا بالعدل ولا بالقانون. هذه فعلاً ممارسات يتقصَّد مَن هم وراءها التنكيل بالخصوم السياسيين. وأنا أعتقد أنَّ من واجب فخامة الرئيس شخصيًا أن يحول دون ذلك، وأن يوقف هذه المهزلة التي تمارسها هذه القاضية باسم القضاء، والقضاء منها براء. هذا الأمر لا يجوز أن يستمر لأنَّ فيه إذلالًا للقضاء، وإذلالاً للبنانيين وضرباً للقضاء وضرباً لمفهوم الدولة وضرباً وتهديماً للاقتصاد وللقمة عيش اللبنانيين. هذا الأمر لا يجوز أن يستمر على هذا الحال على الإطلاق.أنا لا أقول هذا فقط عن القضاء، بل أقول أيضاً أنه لم يعد يجوز أن يستمر هذا الاستعصاء عن القيام بالإصلاحات المطلوبة، وذلك من أجل أن تعود الثقة إلى لبنان والاقتصاد اللبناني. إذ أنَّ الإصلاحات الواجب أن نقوم بها لا تقتصر فقط على ممارسة حقيقية لاستقلالية القضاء، وإبعاده عن الانغماس في الخلافات السياسية، بل يجب أن نبعد الإدارة اللبنانية عن الانغماس في الخلافات السياسية.من المؤسف جدًا أنه لم يعد هناك من موظف صغير أو كبير في لبنان إلا وهو تابع للحزب الفلاني أو لمجموعة سياسية من هنا أو من هناك بسبب استتباع الإدارة اللبنانية للأحزاب الطائفية والمذهبية والميليشياوية. في حقيقة الأمر، ولكي تستقيم أمورنا الوطنية والسياسية، فإنه يفترض بالدولة أن تكون حيادية في علاقتها مع جميع اللبنانيين، وبالتالي يجب ان نعيد الاعتبار للكفاءة والجدارة في اختيار العاملين في جميع إدارات الدولة ومؤسساتها، وأن تكونَ المحاسبة على أساس الأداء. هذه هي الطريقة الأمثل لاستعادة ثقة العالم بنا وبدولتنا وباقتصادنا الوطني، واستعادة ثقة اللبنانيين بالدولة اللبنانية.لا يمكن أن يحصل لبنان على ثقة الأشقاء العرب، وعلى ثقة العالم بنا، إذا لم نُعِدْ الاعتبار للدولة، ولصدقية الدولة، ولقرار الدولة الحر، ولاحترامنا للشرعيتين العربية والدولية واحترام الدولة اللبنانية للقرارات الدولية ذات الصلة بلبنان.هذه الأمور التي يُفترض بنا أن نحافظ عليها. المصيبة أننا نرى أننا نخالفها كل يوم وفي كل حين. المؤسف أنَّ استقلال القضاء يُمارس بالعكس، حيادية الدولة تمارس بالعكس، علاقتنا من أشقائنا العرب تمارس بالعكس.لقد أصبح لبنان يتصرف من موقع مخالف لمصلحته ولمصلحة أبنائه.هذه هي التحديات التي علينا أن نواجهها.مشكلة أخرى يجب أن نتنبه لها أيضاً وأن ندركها وأن نعترف بها، وذلك أنه حتى ولو طبقنا جميع القرارات والإصلاحات التي يقترحها صندوق النقد الدولي، فإنّ ذلك لن يكون كافياً. إذ أنّه من الضروري أن نقوم بها وأن نكون قادرين على تنفيذها. ولكن إذا لم يترافق مع ذلك إصلاحات سياسية وممارسات صحيحة في الداخل، ومن ذلك إعادة الاعتبار لهذه المبادئ الأساسية التي أتكلم عنها في استعادة الاعتبار للدولة اللبنانية ولسلطتها الكاملة على قرارها الحر وعلى كامل أراضيها، فإنّ تلك الإجراءات الاقتصادية والمالية والنقدية لن تكون كافية. يجب أن نفهم مقتضيات المرحلة التي نخوضها الآن، وأن نفهم المتغيرات الجارية في العالم، والمتغيرات الجارية في لبنان، أن نعي ما هي مقتضيات مواجهة الانهيار التي نحن فيها على الصعد الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية. كلُّ هذه التحديات تتطلب منا فهمًا وممارسة مسؤولة، حتى نستطيعَ الخروجَ من هذ المأزق الكبير الذي يعصف بلبنان ويعاني منه اللبنانيون.لدينا مشكلة في كيفية استعادة ثقة اللبنانيين بـ”بكرا” أي بالمستقبل. ولذلك، فإننا إذا ما استطعنا حقاً أن نجعل اللبنانيون بداية بالغد، فإنّه لا أمل بالخروج من هذا الوضع. هذا الأمر يتطلّب ممارسة مسؤولة من قبل جميع المسؤولين الحاليين وفي المستقبل، وكذلك أيضاً من قبل المجلس النيابي، ومن قبل الحكومات برئيسها ووزرائها وبإداراتها، وحتماً قبل ذلك من قبل رئيس الجمهورية.يجب أن نكون جميعاً على مستوى هذه المسؤولية الكبرى، وإلا فليس هناك مِن إمكانية للخروج من هذه المآزق الكبرى التي تعصف بنا، والتي إذا استمر بنا على هذا الحال المدمر، والذي يأخذ الجميع نحو المزيد من الانهيارات.