لقد شرع الله تعالى لعباده الشرائع وفصَّل لهم الأحكام تحقيقاً لمصالحهم العاجلة والآجلة في الدين والدنيا. ولقد أشار القرآن الكريم عند ذكر الحجِّ إلى وجود منافع للنَّاس ومصالح لهم، فقال تعالى: ﴿ ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ﴾ سورة الحج؛ آية: 28.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: في تفسير هذه الآية: إنَّها منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة: فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا: فما يُصيبون من منافع البُّدْن، والذبائح والتجارات. وفي الحقيقة لو أردنا تفصيل كلام ابن عباس وتعداد المنافع الدينية والدنيوية التي أشار إليها لتحصَّل لنا كثير من هذه المنافع، فمن هذه المنافع:
– أولاً: اجتماع المسلمين: لأنَّ مبنى هذا الدين على الاجتماع والتآلف يبن المسلمين، فلذلك جعل الله تعالى معظم عباداته المشروعة سبيلاً لألوان من التلاقي فيما بينهم. فجعل لهم لقاءً يتكرَّر في كلِّ عامٍ مرَّة، على مستوى البقاع الإسلامية كلِّها. وشرع لتنظيم ذلك الحجَّ إلى بيته الحرام.
– ثانياً: إحياء حقيقة الأخوة الإسلامية وإبرازها بشكل محسوس، بحيث لا تؤثِّر عليها حواجز اللغات وتباعد البلدان. وخير وسيلة لإحيائها تلاقيهم حول بيت الله العتيق، يلهجون بدعاءٍ واحدٍ لربٍّ واحدٍ باتجاه واحد.
– ثالثاً: شدُّ المسلمين جميعاً مهما تباعدت ديارهم إلى محور مكة المكرَّمة التي هي مشرق الإسلام في الأرض، والتي منها انبثق نور التوحيد إلى أقطار العالم، لتكون رمز وحدتهم وتجسيد مبدئهم.
– رابعاً: هو مظهرٌ من مظاهر المساواة بين المسلمين، تسقط فيه سائر الاعتبارات التي تميِّز النَّاس وتحملهم على التفاخر في الملبس والمسكن، ويستوي السيِّد والمسود، والخدم والمخدوم، تغمر الجميع روحانية واحدة، وهي نشوة القرب من الله تعالى والتطلِّع لرضاه.
وإنَّه مظهرٌ رائع يذكِّر بالمبدأ حين يخرج النَّاس من بطون أمهاتهم سواء، لا مزيّة لأحدٍ على غيره، كما يذكِّر بالمعاد حين يقوم النَّاس لربِّ العباد حُفَاةً عُراةً لا أحساب ولا أنساب.
– خامساً: والحجُّ كذلك أكبر مذكِّر يذكِّر المسلمين حال آبائهم وأسلافهم من الأنبياء والمرسلين، فكلُّ موقفٍ من مواقف الحجّ مرتبطٌ بحدث يثير في مشاعر الحجَّاج كثيراً من الذكريات، فعند البيت يتجلَّى في خاطر المؤمن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان البيت العتيق، وتتجلَّى صور المصطفى وهو يقبِّل الحجر، ويطعن الأصنام لتهوي رؤوسها مَخْزيَّة مَهينة، وعند الصًّفا والمروة يتذكَّر المسلم السيدة هاجر عليها السلام وهي تسعى بينهما تطلب الماء لولدها إسماعيل. وفي منى عند الجمرات يستشعر مواقف سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يعارض الشيطان ويخالف أوامره ويرجمه بالحصباء، ويُقبل على امتثال أمر ربِّه، وينفِّذ ما أوحاه إليه في رؤياه من ذبح ابنه.
– سادساً: أضف إلى كلِّ ذلك ما يناله فقراء تلك البلاد في ذلك الموسم المبارك من الرزق الذي يغني فقيرهم السنة كلَّها، تحقيقاً لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿ ربَّنا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم وارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَشْكُرُونَ ﴾ سورة إبراهيم؛ آية: 37.
– سابعاً: والحجُّ تربيةٌ للجسم على الخشونة وتحمّل المشاق والصبر على المكاره. وتربية للخلق على التواضع والتسامح وحسن المعاشرة وطيب الملاطفة. وتربية للنفس على البذل والتضحية والصدقة والإحسان. وتربية للضمير على الطهارة والرقابة لله تعالى، قال تعالى: ﴿ الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنًَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ سورة البقرة؛ آية: 197.