ألقى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان خطبة عيد الفطر السعيد في جامع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد الأمين صلى الله عليه وسلم في وسط بيروت وأم المصلين بحضور رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة ووزير الصحة الدكتور فراس الأبيض والنائبين فؤاد مخزومي وعدنان طرابلسي والعديد من السفراء في مقدمتهم سفير دولة الكويت لدى لبنان عبد العال القناعي وأمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية الشيخ أمين الكردي ورئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام في لبنان القاضي الشيخ خلدون عريمط وقائد شرطة بيروت العميد احمد عبلا وعلماء وأعضاء من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وحشد من الشخصيات السياسية
وقال المفتي دريان في خطبة عيد الفطر: نَقِفُ اليَوْمَ في هَذِه الصَّبِيحةِ المُبَاركة ، مع نِهَايةِ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَك ، وبِدايَةِ أَيَّامِ الفِطْر ، ونَحنُ شَدِيدُو الفَرْحَةِ والسَّعَادةِ والاعْتِزَازِ بِفَرِيضَةِ الصَّوْمِ التي أَدَّيْنَا ، امْتِثَالاً للأَمْرِ الإلهي في قَوْلهِ تَعَالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، وقَولِهِ تَعَالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ ، ونَحنُ نَعرِفُ الأجرَ الكبيرَ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ ، وقَامَ لَيالِيَهُ ، كَما أنَّنا نعرِفُ بِالتَّجْرِبة ، أَنَّ شهرَ رَمَضَانَ بعِبَادَاتِه وأَخْلاقِهُ ، يُصْبِحُ مِيزَانَاً ومِقْيَاسَاً للإِنْسَانِ الصَّالِحِ عَلَى مَدَى العَامِ كُلِّه ، في الانضِبَاطِ والأَخْلاقِيَاتِ، وفي حفظِ اليَدِ واللِّسَان، وفي التَفْكِيرِ والتَدْبيرِ لِلجَميع ، وفي الإِحْسَاسِ بِمَسْؤولِياتِ الإيمَانِ، وأَعْبَاءِ التَكلِيفِ بِالعِبادَةِ والعَمَلِ الصَّالِح ، مَهما كانتِ الصُعُوبَاتُ والمَشَقَّات .
اِستَقْبَلْنَا شهرَ رَمَضَانَ بِأداءِ العِبادَةِ في شَهْرِ الصَّوم، وَشَهرِ القُرْآن. وهَا نحن نُوَدِّعُ الشَّهرَ الكريمَ المُبارَك، بِالشُّكْرِ للهِ سُبحانَهُ على ما أَوْلانَا مِنْ نِعْمَةِ أداءِ الفَرِيضَة، وَالصَّبْرِ على البَلاء، ورَجاءِ الرَّحْمَةِ والمَغْفِرة. نُوَدِّعُ الشَّهرَ الكريمَ المُبارَك، وَهو شَهرُ نُزُولِ القُرْآن، والقرآنُ يَنشُرُ السَّكِينة، وهو رَمْزٌ للأمْنِ والأَمَان، وصُنْعِ الإنْسَانِ الجَدِيد ، إنْسَانِ السَّلامِ وَالتَّضَامُن ، وَصُنْعِ الجَدِيدِ والمُتقدِّم . وهكذا، فإنَّ رِسالةَ القُرآنِ والدِّين، هي رِسالةُ السَّلامِ في لَيْلِ الزَّمَانِ وَنَهارِه. هو سَلامُ الرِّسَالاتِ الرَّبَانِيَّة، وسَلامُ القُرْآنِ وَهِدَايَتِه، وسَلامُ الإنْسَانِ لأَخِيهِ الإنْسَان .
أَيُّها المسلمون :
إنَّ رِسالةَ السَّلامِ هَذِه، التي بَشَّرَنَا بِها القُرْآنُ الكَرِبم، أَحْسَسْنَاهَا ونُحِسُّها في شَهْرْ رَمَضَان، ونَعِيشُها في كُلِّ عامٍ مِنْ خِلالِ الصَّوم، وَمِنْ خِلالِ الانْفِتاحِ على بَعْضِنَا، والتَّضَامُنِ مَعَ كُلِّ المَقْهُورِين، الذين يُعَانون، والذينَ يَضَعونَ نُصْبَ أَعيُنِهِمْ طَاعَةَ رَبِّ العَالَمِين .
أيَّها المسلمون ، أيَّها اللينانيون :
ما لنا لا نُحِسُّ بالسَّلامِ في النُّفُوسِ والصُّفُوف ؟. السَّلامِ الذي بَشَّرَنا بِه القُرآنُ في أعْمَاقِنَا وعُقولِنَا. وقد قالَ لنَا تَعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾. فَبَدَلاً مِنْ أنْ يَكونَ السَّلامُ هَدِيَّةَ المَولَى وَرَحْمَتَهُ التي وَسِعَتْ كُلَّ شيء، صَارَ السَّلامُ تَحَدِّياً يكونُ عَلَيْنَا جَمِيعَاً أنْ نُناضِلَ مِنْ أَجلِ إحْقَاقِه . النِّزَاعَاتُ تَنتَشِرُ في كُلِّ مَكَان. وَنَحْنُ نَفْقِدُ أطْفَالَنَا وأُسَرَنَا ، ونَشْهَدُ في الإعْلامِ حتى صُعُوبَاتِ الصَّلاةِ، وأَدَاءِ العِبَادَاتِ فِي المَسْجِدِ الأقْصْى، تَحْتَ وَطْأَةِ حِرَابِ الاحْتِلالِ الصُّهيونِيِّ وبَنَادِقِه . فتحيةَ إعْزَازٍ وإِكْبَار ، لأَهْلِنَا في القُدْسِ وفي كلِّ فِلَسْطين على وَقَفَاتِ العِزَّ في شَهْرِ رَمَضَان في بَاحَاتِ المَسْجِدِ الأقْصْى ، وَعَلَى نِضَالِهم من أَجْلِ تَحْرِيرِ كُلِّ فِلَسْطين مَنْ دَنَسِ الاحْتِلالِ الصَّهْيُونِيّ .
أيَّها المسلمون ، أيَّها اللينانيون :
قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ في سُورَةِ الإيلافِ : ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾. هذا هو الأمْنُ الإنْسَانيّ، أَمْنُ الكِفَايَةِ المَعِيشِيَّة، والأَمْنُ عَلَى الحَيَاة، فَلْنَتَأَمَّلْ هَذَا الفُقدَانَ ، وهذا الحِرمَانَ مِنَ النِّعمَةِ الإِلهِيَّة . يَعرِفُ الجَميعُ أنَّه لَيْسَ مِنْ شَأنِنَا السَّخْطُ عَلَى السُّلُطَات ، ولا التَّحَدِّي لَهَا . لكنَّنِي أَقُول : ما حَدَثَ في طرابلس، لا يَحدُثُ لِلمَرَّةِ الأُولى، وَمَا تَحَوَّطَتْ لهُ مُؤسَسَاتُ الدَّوْلةِ، ولا حَرَصَتْ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِه . بل يُمكِنُ القَوْل : إنَّها في عَدَمِ الحِرْصِ على الأمنِ المَعِيشِيِّ، والأمْنِ الإنْسَانِيّ ، إنَّما أَسْهَمَتْ بِقَصْدٍ أو بدونِ قَصْدٍ ، فِيمَا نَزَلَ بِالنَّاسِ مِنْ مَآسٍ، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ فُقدَانٍ وإيلام . لقد نَسِيَ الحَاكِمون إنسانِيَّةَ الإنْسَان، وَحَالُوا دُونَ رَحْمَةِ الرَّحْمَن. مَا نَظَرُوا في أداءِ وَاجِبَاتِهِم ، ولا وَقَوُا النَّاسَ الذين يَحْكُمُونَهم شُرُورَ الحَاجَةِ وَالمَجَاعَة، ولا سَعَوْا لِكَي لا يُغَرَّرَ الجَائِعُون بِأَنْفُسِهِمْ وَعَوَائلِهِم ، وَمَنْ تَقَعُ عَليهِمْ مَسْؤُولِيَّاتُ العِنَايَةِ بِهِمْ عَيْشَاً وَحَيَاة.
أيَّها المسلمون ، أيَّها اللينانيون :
معَ انتِهَاءِ شَهرِ رَمضانَ المُبَارك ، نَنتَقِلُ مِنْ نِعمَةِ الحِرمَانِ الذَّاتِيّ ، اِستِجَابَةً لأمْرِ اللهِ تَعَالى ، وأمَلاً في رَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِه ، لِنَدخُلَ في نِقْمَةِ الحِرْمَانِ المَفْرُوضِ عَلَيْنَا، نتيجةً لسِيَاسَاتِ الفَاسِدِين المُفْسِدِين. نَنْتَقِلُ مِنْ سَعَادَةِ الصِّيامِ إلى شَقَاءِ الحِرمَان، إلى الدَّعْوَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ سَيطَرَةِ الفَاسِدِين وَهَيمَنَتِهِمْ على مُقَدَّرَاتِ الشَّعبِ الوَاحِد .
فالجُوعُ لا يُمَيِّزُ بَينَ الطَّوَائفِ وَالمَذاهِبِ وَالمَنَاطِق . تَجْمَعُنا المُعَانَاةُ مِن الأَزَمَاتِ المُتَفَاقِمَة ، وتُوَحِّدُنا الإرادَةُ الوَطَنِيَّةُ لِتَغيِيرِ مَا نحن فيه مِنْ شَقاءٍ وَمَرَارَةٍ وَآلام ، وَتُخْرِجُنَا مِنْ هُوَّةِ الانهيارِ والفَشَل ، إلى ما نَطمَحُ أَنْ نكونَ عَلَيْه ، دولةَ رِسالةٍ يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَان، تَرْبِطُهَا الأُخوَّةُ الصَّادِقة مَعِ الأَشِقَاءِ العرَب، الذِينَ وَفَفُوا إلى جَانِبِ لبنان واللبنانيين في أصْعَبِ الظُرُوفِ ، فَلَهُم مِنَّا جَمِيعَاً أَصْدَقُ مَعَانِي الأُخوَّةِ والامتِنَانِ والوَفَاءِ الكَبِير .
مِن هُنَا أهمِيَّةُ الفُرصَةِ المُتوَفِّرَةِ أَمَامَنا، لِتَحقِيِق هذا التَّغيِيرِ عَبْرَ الانتخاباتِ النِّيَابِيَّةِ المُقبلة. ولذلك أُحَذِّرُ وأُنَبِّهُ مِنْ خُطورَةِ الامتناعِ عَنِ المُشارَكَةِ في الانْتِخَابَات، ومِنْ خُطورَةِ انتخابِ الفَاسِدِينَ السَّيِّئين، لأنَّ الامْتِنَاعَ عَنِ المُشارَكَةِ في الانْتِخَابَات هُوَ الوَصْفَةُ السِّحرِيَّةُ لِوُصولِ الفَاسِدِينَ السَّيِّئين إلى السُّلْطَة. وَإنَّ تَكرَارَ الأَخْطَاءِ جَرِيمَة . وَأَسوَأُ الجَرَائمِ تلك التي تُرتَكَبُ بِحَقِّ الوَطَن، وَبِحُجَّةِ الدِّفاَعِ عَنْهُ. لقد بلغَ الوَضعُ مِنَ الخُطُورَةِ وَمِنَ السُّوءِ دَرَجَةً يُحَاوِلون مَعَهَا تَحويلَ المُسِيءِ إلى مُحْسِن، والمُجْرِمِ إلى بَطَل ، ويَرفَعون الفَاشِلَ إلى أعلى دَرَجَاتِ الإشَادَةِ والتَّكْرِيم . وهُمُ الذين حَوَّلُوا لبنانَ إلى دَوْلةٍ فَاشِلَة ، تَسْتَجدِي المَاءَ وَالكَهرَبَاءَ ، وَرَغِيفَ الخُبْز .
لا أحَدَ مِنْ هؤلاءِ الفَاشِلِين يَمْلِكُ الجُرأَةَ على الاعْتِرَافِ بِمَا اقترفَتْهُ يَدَاهُ المُلَوَّثتانِ بِوُحُولِ الفَسَادِ وَالمَالِ الحَرَام . بل إنَّهم يُصَنِّفونَ أنفسَهُمْ مَلائكَةً وَقِدِّيسِين ، لِيَعُودُوا إلى مَسرَحِ الجَرِيمَةِ مِنْ جَدِيد، يَعِيثُونَ في الوَطَنِ اللبنانِيِّ فَسَاداً وإِفْسَاداً، فَحَذَارِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ المُخَادِعَةِ والمُضَلِّلَة .
إنَّ الانتخاباتِ النِّيَابِيَّةَ فُرصَةٌ أَمَامَنَا لِلتَّغْيير . فَلْيَكُنْ تَغْييرَاً نَحْوَ الأفْضَل ، بِاختِيَارِ الأَصلَح . والاختيارُ لا يَكونُ عَنْ بُعْد . ولا يكونُ بالتَّمَنِّي . بل يَكونُ بِالمُشارَكَةِ الفِعلِيَّةِ الكَثِيفَة ، وَبِقولِ الحَقِّ في وَرَقَةِ التَّصْوِيت.
إنَّ الشَّكوَى مِنَ الفَسَادِ ، وَمِنَ الفَشَلِ في الإدَارَة ، لا يَكُونُ بِالكَلامِ فقط . إنَّه يَحتاجُ إلى عَمَل . والعملُ يَبدَأُ بالمشارَكَة في الانْتِخَابَاتِ باخْتِيارِ الصَّالِحِين مِنْ أَبْنَائِنَا، وليسَ بالامْتِنَاعِ عَنِ المُشارَكةِ في الانتخابات، لإفساحِ المَجالِ أمامَ السَّيِّئينَ منهم . إنَّ الخَطَأَ المُتكَرِّرَ يَهْبِطُ إلى مُستَوَى الجَرِيمَةِ الكُيْرَى بِحَقِّ الوَطَنِ .
أيَّها اللينانيون :
لقد مَرَّ لبنانُ عَبْرَ تَارِيخِهِ الحَدِيث، بِأزَمَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ وَأمنِيَّةٍ صَعبَةٍ وَمُعَقَّدَة . وَوَاجَهَ مَصاعِبَ اقتصادِيَّةً واجتماعِيَّةً كثيرَةً وَمُتَداخِلَة، ولكنَّه استطاعَ أنْ يَخرُجَ مِنها بِفضلِ تَمَسُّكِهِ بِإيمانِهِ باللهِ، ثُمَّ تَمَسُّكِهِ بِوَحدَتِهِ الوَطَنِيَّة وَعَيْشِهِ الوَاحِد . وأنْ يُعيدَ بِناءَ ذَاتِهِ مِنْ جَدِيد ، على قَاعِدَةِ الإيمانِ بِاللهِ تَعَالى ، وَبِرِسَالتِهِ الوَطَنِيَّةِ الإنسانِيَّةِ السَّامِية.
واللبنانيون اليومَ قَادِرُونَ بإذنِ الله، على إعادَةِ بِناءِ وَطَنِهِمْ مِنْ جَدِيد، وعلى إعادَةِ تَرمِيمِ مُؤسَّسَاتِ دَولَتِهِمُ المُتَدَاعِيَة، وذلكَ انطلاقاً مِنِ اختيارِ أعضاءِ المَجلِسِ النِّيَابِيّ ، الذي يُشكِّلُ المَدخَلَ إلى الإصلاحِ المَنشُود.
في العَمَلِ الوَطَنِيِّ ، اليَأْسُ مَمْنوع ، لأنَّهُ اسْتِسْلامٌ لِلفَشَلِ وَلِلفَسَاد ، ولأنَّه انتحَارٌ وَمَوْت. واللبنانيون جميعاً مُؤتَمَنون على العَمَلِ مَعاً، مِنْ أجلِ إنقاذِ لبنانَ مِنْ بَينِ بَراثِنِ الفَاسِدِين، الذينَ يُدمِّرُونَ الوَطَن، وَهُمْ يَعتَقِدُونَ أنَّهم يُحسِنُونَ صُنْعَاً. أَلا بِئسَ مَا يَصْنَعُون.
إنَّ الثِّقَةَ بِاللهِ تعالى، والثِّقةَ بالوَطنِ وَوَحْدَتِهِ وخَلاصِه، هي وَسِيلَتُنا لِلنَّجَاة. والانتخاباتُ النِّيابِيَّةُ هي طَرِيقُنا الشَّرعِيُّ إلى هَذَا الخَلاص. فَلْنُبَادِرْ إلى تَحَمُّلِ مَسؤُولِيَّاتِنَا الوَطَنِيَّةِ والأخلاقِيَّة ، باختيارِ الصَّالِحِين مِنْ أبنَائِنَا، وَهُمْ كُثْرٌ بِحَمْدِ الله .
أيَّها المسلمون ، أيَّها اللينانيون :
الوَطَنُ مُعرَّضٌ لِلأخطارِ وَالمَخَاطِر، والإنْسَانُ فيه مُعَرَّضٌ لِلمَوْتِ الزُّؤَام. نعم، نحن نَفتَقِرُ إلى أَدْنَى مُتَطَلَّبَاتِ العَيْشِ الكَرِيم. ومَا دَامَ الإنْسَانُ مُعَرَّضاً فإنَّ الوَطَنَ مُعَرَّض . نحن لا نَفْتَقِرُ إلى الحُكُومَةِ السَّاهِرَةِ، بل نَفْتَقِرُ إلى القِيَادَاتِ العَامِلَةِ وَالمُتَبَصِّرَة ، التي تَسْعَى لِوَضْعِ الأُمُورِ في نِصَابِها الصَّحِيح، لقد تَعوَّدَ النَّاسُ على أنْ يَجِدُوا القِيَادَةَ السِّيَاسِيَّةَ المُتَصَدِّيَةَ لِلمُشْكِلات، فإنْ لم تُوجَدْ، فَأَينَ هِيَ القِيَادَاتُ الشَّعْبِيَّةُ أو الطَّائِفِيَّةُ أوِ المَحَلِّيَّة. لا يَسأَلُ أَحَدٌ عنْ أَحَد، ولا يُصغِي أَحدٌ لِشَكوَى أَحَد. وَكُلُّ هذا يَحْصُل، وَنَحن على مَشَارِفِ انتخاباتٍ المَفرُوضُ خِلالَها أَنْ يَتَوَجَّهَ المُرَشَّحون إلى النَّاسِ وَقَضَايَاهُمْ وَاحْتِيَاجَاتِهِم. لماذا يَظُنُّ بَعْضُ المُرَشَّحُين أنَّ النَّاسَ أَغنَامٌ تَخضَعُ لِلعَصَا ، وَلِاسْتِحْثَاثِ الرَّاعِي وَالسَّائق، حتَّى لو كانَتْ جَائعَةً أَو خَائفَة. لقد دَأَبْتُ في عَشَرَاتِ المُنَاسَبَاتِ على دَعْوَةِ النَّاسِ لِلاقْتِرَاع، مِنْ أَجْلِ التَّغْيِير، عَسَانَا نَرتَاحُ مِنْ فُلانٍ وَعِلَّان. ولكِنَّنِي بَعدَ مَآسِي طَرابلسْ وعَكَّار، وغَيرِ طرابلسْ وعَكَّار ، وحِرْمَانِ وشَقَاءِ وَجُوعِ كُلَّ المَنَاطِقِ اللبْنَانِيَّة ، أَقُول : لَيَكُنْ هَمُّ النَّاسِ مُنصَبّاً على التَّغيِيرِ الوَطَنِيّ، والإنقَاذِ الوَطَنِيّ، بَدَلَ أَنْ يَكُونَ هَمُّهُمْ الانْدِفَاعَ نَحْوَ الهِجرَة، حتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَنْ تَطْوِيَهُمْ أَمْوَاجُ البَحْرِ الهَائجَة .
أيَّها المسلمون ، أيَّها اللينانيون :
يُبَشِّرُنا القرآنُ، وَيُبَشِّرُنا رَسُولُ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليهِ فِي أحَادِيثهِ، بِالأَجْرِ وَالرَّحْمَة، جَزَاءَ أَدَاءِ فَرِيضَةِ الصَّوم. لكنّ القرآنَ والرَّسُول، يُخْبِرَانِنَا أنَّهُ لا يَنْجُو مُؤمِنٌ وَجَارُهُ جَائِع. الأَزَمَاتُ الاجتماعِيَّةُ والإنسانِيَّة، لا تَحُلُّها إلاّ الحُكُومَةُ ومُؤَسَّسَات الدَوْلةِ القَادِرَةِ والفَاعِلَة. وأَنَا أَجْزِمُ أنَّ التَّكافُلَ والتَعَاضُدَ يَصنَعُ الفَرْق، ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، يَأْمُرُنا أَنْ نَتَصَدَّقَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَة . وَأَخْبَرنَا أيْضَاً : أَنَّهُ مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَة ، أمَّا لِجِهَةِ الأَمْنِ الإنْسَانِيِّ العَامّ ، فَكُلُّنَا مَسْؤول . لا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى سَمْسَرَةُ الزَّوَارِق . وَلا يَجُوزُ أنْ يَبقَى الاتِّجَارُ بِعَيشِ المُوَاطِنِين . ولَا يَنْبَغي أنْ تُسْرَقَ أمْوالُ النَّاسِ وَجَنى أعمارِهم تَحْتَ أيِّ ذَرِيعَة، وَلا يَجُوزُ أنْ تَبْقَى الجَرِيمَةُ المُنَظَّمَةُ وَغَيرُ المُنَظَّمَة . مَاذا أقولُ لَكُمْ أيُّهَا الإِخْوَة ؟ اِصْنَعُوا مُسْتَقْبَلَكُم بِأنْفُسِكُم!!. كُلٌّ مِنكُمْ مَسؤُولٌ عَنِ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَة . وقدْ ذَكَرْتُ مِراراً مَثَلَ السَّفِينَةِ الوَاحِدَة، ذَاتِ الطَّبَقَتَين، الذي ضَرَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّم، لِوَحْدَةِ مَصِيرِ المُجْتَمَعَاتِ وَالإنسَانِيَّة. كَانَ الذِين في أسْفلِ السَّفِينَةِ إذا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ ، مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُم . فَقَالُوا : لَوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقَاً وَلَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلَكُوا وَهَلَكُوا جَمِيعاً) ،. ثمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ الآيةَ الكَرِيمَة : ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. الرُّسُولُ الكريمُ يقولُ لنا : إنّ الأغنياءَ وَالقَادِرِين، لَنْ يَنْجُوا إذا هَلَكَ الفُقَرَاء. هُوَ مُجتَمَعٌ واحدٌ ، لنْ يَنْجُوَ أَعْلاهُ إذا اضْطَرَبَتْ أَسَافِلُه. اليومَ يُحَاوِلُ الجَوْعَى في طَرَابلس وغَيْرِهَا الهِجْرَة، وإذا تُرِكُوا لِظُلُمَاتِ البَحر؛ فإنَّ الآمِنِينَ على مَوَاقِعِهِمْ وَثَرَوَاتِهِمْ سَيَنْتَشِرُ بَينَهُمُ الخَوفُ اليومَ وغَدَاً . الاضْطِّرَابُ المَعِيشِيُّ يُهَدِّدُ الجَمِيع، وَإنْ بَدَا كَأنَّمَا الذينَ يَهْلِكُون وَحْدَهُمْ هُمُ الذينَ يَقْذِفُهُمُ السَّمَاسِرَةُ إلى الزَّوَارِق ، إنَّهَا لَحظَةُ الحَقِيقَةِ التي يَتَفَكَّكُ فيها المُجْتَمَع ، وَيَتَّجِهُ فيها الجَميعُ إلى النَّجَاةِ بِأنْفُسِهِم . وَالهَلاكُ في النِّهَايَةِ وَاقِعٌ بِالجَمِيع ، وَعَلى الجَمِيع.
أيَّها المسلمون :
يقولُ اللهُ عَزَّ وَجَلّ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. ويقولُ نَعَالَى : ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ . يَعِدُنا عَزَّ وَجَلَّ في هذه الآياتِ الكَرِيماتِ بِالفَضلِ وَالخَيْر، وَيَعْتَبِرُ الشَّيْطَانَ رَمْزَاً لِلفَقْرِ وَالحَاجَة ، وَيُخْبِرُنَا أَنَّ المُنْفِقَ إنَّمَا يُنفِقُ لِنَفْسِه . وَيُخْبِرُنا في القرآنِ أَيْضَاً أَنَّ اللهَ هُوَ السَّلام ، وَأَنَّ إنزَالَ القرآنِ في ليلةِ القَدْرِ بُشْرَى بِالسَّكِينَةِ وَالسَّلام ، فنحن مَدعُوُّونَ بِدَعوَةِ الإيمانِ إلى الفَضْلِ وَالخَيرِ وَالسَّلام.
لقدْ أَدَّيْنَا صَوْمَنَا وَصَلاتَنَا وَعِبادَاتِنَا التي اكْتَمَلَتْ بِصَومِ شَهْرِ رَمَضَان . فنحن وَاثِقونَ أنَّهُ بِأَدَاءِ العِبَادَات، تَتَحَقَّقُ بِالثِّقَةِ الوُعُودُ الأُخْرَى لِخَيرِ البِلادِ وَالعِبَاد، فَالَ تَعَالَى : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ .
اللهُمَّ إنَّا نَسأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ وَعَفْوِكَ وَمَغْفِرَتِك ، أَنْ تَرفَعَ الظُّلْمَ وَالحَاجَةَ وَفَسَادَ الحَاكِمِين ، وَشَقَاءَ المَحْكُومِين، وَآلامَ الثَّكَالَى وَالمَحرُومِين عَنْ كَوَاهِلِ اللبنانيين ، وَأَنْ تَشْمَلَنَا بِرَحْمَتِكَ وَعَطْفِكَ ، وحَفِظَ اللهُ لُبنانَ وَشَعبَه، وَقَدَّرَ إِخرَاجَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيه ، إنَّهُ عَفُوٌّ كَرِيم .
أيها المسلمون :
رمَضانُ شَهرُ الصَّبْرِ والمُوَاساةِ والمُبَادَرة . وقد أدَّيتُمْ وَاجِبَكُم ، وَصَنَعْتُمْ فارِقاً في مَجَالاتِ العِبَادِة ، ومُكافَحَةِ البُؤْسِ والتَّعَب ، والاحْتِيَاجَاتِ المُتَفاقِمَة .
أُهَنِّئُكُمْ بالعيد المبارك ، وأسْاَلُ اللهَ سبحانَه أنْ يَجْزِيَكم خيرَ الجَزَاء ، على الفَضَائلِ والطَّاعات ، وباركَ اللهُ لكم صومَكم وفِطرَكُم ، وصلاتَكُم وزكاتَكُم وعمَلَكُم الصَّالِحِ، مِنْ أجلِ الخَيْرِ والبِرِّ والتَّقْوى .
وبعد إلقاء المفتي دريان خطبة عيد الفطر توجه المفتي دريان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة إلى ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري حيث قرأوا الفاتحة عن روحه الطاهرة ورفاقه الأبرار.
وكان رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي يرافقه قائد شرطة بيروت العميد احمد عبلا قد اصطحب مفتي الجمهورية من منزله صباحا إلى مسجد محمد الأمين في موكب رسمي وقدمت ثلة من قوى الأمن الداخلي التشريفات في باحة المسجد للرئيس ميقاتي والمفتي دريان.