وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة بمناسبة حلول السنة الهجرية الجديدة الآتي نصها:
الحمدُ للهِ ذِي الفَضْلِ والإحْسَان ، شرعَ لعبادِه هِجْرةَ القُلوبِ وهِجْرةَ الأَبْدَان، وجَعَلَ هاتين الهِجْرَتين باقِيَتَيْنِ على مَرِّ الزَّمان .
وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ، وعدَ المُهَاجِرين إليهِ أجْرَاً عَظِيماً ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ ، وقالَ تَعَالى : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، وقَالَ تَعَالى : ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
وأشْهَدُ أنَّ محمداً عَبْدُه ورسُولُه ، هَاجرَ إلى رَبِّه فأوَاه وحَمَاه ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أن قَال : (لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وعلى آلِه وأصْحَابِه الذين هَاجَرُوا وجَاهَدُوا في سَبِيلِ الله ، حتَّى فَتَحُوا القُلوبَ والبُلْدَان ، ونَشَرُوا العدلَ والإيمانَ والإحْسَان.
أما بعد : أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
مع حُلولِ كُلِّ عامٍ هجريٍّ جَدِيد ، يقفُ المسلمونَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها مُحْتَفِينَ بعامٍ هجريٍّ جديد ، ومُسْتَذْكِرين أحداثَ الهِجْرِةِ النَبَوِيَّةِ الشَّرِيفَة ، التي تَسْتَحِقُّ الوَقْفَةَ المُتَأَنِّيَة ، لأَنَّها كَانتْ في حَقِيقَتِها ، حَدَثاً بالغَ الأهميةِ في تَارِيخِ وحَياةِ العربِ والمسلمين ، وَهيَ لَم تَكُنْ سَفَرَاً وانْتِقَالاً لِتَحْصِيلِ مُتَعِ الدُّنْيَا ومَلَذَّاتِهَا، وإنما كانتْ انْتِقَالاً مِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ على العقيدة ، وتضحيةً كُبْرَى على حِسَابِ النَّفْسِ والمَالِ والأهْلِ والوَلَد ، فهيَ تَبْدَأُ من أَجْلِ العَقِيدة ، وغَايتُها العَقِيدة ، وفِيهَا الإصرارُ على اتِّبَاعِ الحقِّ ، والدَّعوةِ إلى نَهْجِ الهُدَى والرَّشَاد.
لقَدْ قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنذُ بَعثَتِهِ بِمَكَّة ، قُرَابَةَ الثلاثةَ عَشَرَ عاماً ، دَاعِياً لِلوَحْدَانِيَّةِ والاسْتِقَامَةِ الخُلُقِيَّة ، والانْضِمَامِ إلى رَكْبِ وَحْدَةِ الدِّينِ الذي دَعَا إليهِ وَإليها ، أبو الأنبياءِ إبراهيمُ عليهِ السَّلام، الذي بَنَى البَيتَ العَتِيقَ مَعَ ابْنِهِ إسماعيلَ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَة. ولذلك ، فإنَّ العَرَبَ الذين كانوا يَحُجُّونَ إلى البيتِ ، هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالبقَاءِ على دَعوَةِ إبراهيمَ وَدِيَانَتِه . فَبِبَرَكَةِ دَعوَةِ إبراهيم ، اِسْتَقَامَ لِقُرَيشٍ الأمْر ، وَصَنَعُوا الإيلافَ الذي ذَكَّرَهُمُ القرآنُ الكريمُ بِه ، قَالَ تَعَالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ .
نَحنُ عَائدونَ مِنَ الحَجِّ إلى البَيْتِ الذي بِناهُ إِبراهيمُ وَإِسماعيل ، وَحَوَّلَ تِلكَ النَّوَاحِيَ الصَّحرَاوِيَّةَ الجَردَاءَ إلى وَاحَةٍ مُزدَهِرةٍ لِلخيرِ والائتلافِ والنَّمَاء .
بَعدَ قُرونٍ تَنَكَّرَ المَكِّيُّونَ لِكُلَّ ذلك ، فَأَرسَلَ إِليهِمْ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مُحمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإعَادَتِهِمْ إلى السَّبِيلِ المُستَقِيم ، سَبيلِ إِبرَاهِيمَ الخَليل عليهِ السَّلام .
لقد حاولَ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه ، وَطَوَالَ قُرَابةِ الثلاثَةَ عَشَرَ عاماً مِنْ دَعوَتِهِ بمكّة ، أنْ يُبشِّرَ بني قومِهِ ويُنذِرَهُم ، فَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيل . بَيدَ أنَّ هذا الإعْرَاض ، ما اقتصَرَ على عَدَمِ الإيمانِ والاتِّبَاع . بل إنَّ سادةَ قُريشٍ عَمَدُوا إلى اضطِهادِ أولئكَ الذين أصْغَوا إلى دَعوَةِ الحق . وما تَزَالُ صَرَخَاتُ سُمَيَّةَ وبلالٍ وعَمَّارٍ تَحتَ التعذيب ، ماضيةً عَبْرَ الزَّمَان ، ويُشيرُ إلى ذاك الثَبَاتُ الذي يَهَبُهُ الإيمَان ، وتلكَ الطُمَأنِينَةُ الوَادِعَة ، التي يَنْفُخُ في جَنَباتِها اليقينُ بوعدِ اللهِ للمُؤمنين الصَادِقِين ، وَوَعيدِه للجَبَّارين والمُتكبِّرين . قَالَ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ، وقد حاوَلوا إغراءَه بعدَ الوَعِيد : (واللهِ لو وَضَعُوا الشَّمسَ في يَميني ، والقمرَ في يَسَاري، على أنْ أترُكَ هذا الأمرَ ما فَعَلْت) . فتَعَالتْ قُريشٌ على بني عبدِ المُطَّلِبِ وعَزَلَتْهُم ، وحاصَرَتْهُم في الشِّعْبِ ثلاثَ سِنين ، حتى أكلوا وَرَقَ الشَّجَر، وما ذَلّوا ولا استَكَانوا . ثم أمرَ رسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الذينَ لا يَستطيعون الدِّفاعَ عَنْ أنفُسِهِمْ مِنَ المُؤمنين، بالهِجرةِ إلى الحَبَشَة ، وقال لهم : (إنَّ فيها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أَحَد) . وخَشِيَتْ قُريشٌ أنْ تَنتَشِرَ الدَّعوَةُ بهذهِ الطَّريقةِ خارِجَ مَكّة ، فأرسَلتْ رُسُلَهَا إلى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشةِ المَسِيحي ، لِيَطرُدَ المُسْلِمينَ مِنْ عِندِه وقد زَعَمَ رَسُولا قُريشٍ أنَّ هؤلاءِ اللاجئينَ عِندَه والطَّالبينَ الحِمَايَةَ والعَيشَ مُؤَقَّتاً في جِوَارِه ، هُمْ ضِدُّ دَعوةِ عيسى عليهِ السَّلام ، فقرأَ جَعفرُ بْنُ أبي طَالِب ، اِبْنُ عَمِّ النبيِّ على المَلِكِ صَدْرَاً مِنْ سُورةِ مريم ، فتأثَّرَ النَّجَاشِيُّ وقال: (إنَّ هذا ، ومَا أَتَى بِه عيسى ، لَيَخرُجُ مِنْ مِشكاةٍ واحدة) . وأبى أنْ يَطرُدَ الآتِينَ إليهِ هَرَبَاً مِنَ الاضْطِهادِ بِسَبَبِ إيمانِهم ، وأصبحَ المسيحيون في أرضِ الحبشةِ، أولَ أصدقاءِ الدعوةِ الجَدِيدَة ، وأوَّلَ أصدقاءِ أهلِها.
ثمَّ انطلقَ رَسولُ اللهِ بِصُحْبَةِ أبي بكر، يَقْصِدُ العَربَ في مواسِمِهِم، فَيَدْعوهُمْ إلى رسالةِ الحَقِّ والصِّدق . وَمضَى إلى الطَّائف ، فلم يَأْبَهْ لَهُ وُجَهَاؤُها ، لِأنَّهم كانوا يَعرِفُونَ مِنْ قُريشٍ أنَّ محمداً ليس مَلِكَاً ولا جَبَّاراً ، وإنما هو ابنُ امْرأةٍ مِنْ قُريشٍ كانتْ تأكُلُ القَدِيدَ بمكة ، وتَبِعَهُ سُفهاؤُهم وغِلمَانُهم يَسخَرُونَ منه، فَخَرَجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِف ، وذَكَرَ اسْتِغَاثَتَهُ المَشْهُورَةِ بِوَجْهِ اللهِ الذي أضاءَتْ لهُ السَّمَواتُ والأرض، أنْ لا يَكِلَهُ إلى العَدُوِّ أو الشَّانِئ ، وقال : (إنْ لمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي) .
هذه أطرافٌ مِمَّا عاناه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في سنواتِ دَعْوَتِه الأُولَى. ولِذَلك فَقَدْ رَجَا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، أنْ يَجِدَ في الهِجرةِ إلى يَثرِبَ فَرَجَاً ومَخرَجَاً. فَقَدْ كانَ بينَ خِيارَيْنِ أحلاهُما مُرّ: أنْ يَبقَى بمَكَّةَ مَعَ الذين آمنوا بِدعوتِه ، مُتَحَمِّلِينَ سَفَاهَةَ السُّفَهاء ، وشَمَاتَةَ الأعداء – أو أنْ يَخرُجَ مِنْ وَطَنِهِ مِنْ أجلِ الدَّعوةِ والفُرَصِ الأفضلِ لِنَجَاحِها . وقد رأى أنَّ تِلكَ الفُرَصَ مُمْكِنةٌ ، بعدَ التقائهِ بِجمَاعَاتٍ مِنْ أهلِ يَثرِب، دَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فاسْتَجَابُوا ، وَدَعَوْهُ إلى بَلْدَتِهِم. فَخَرَجَ عليهِ الصَلاةُ والسَّلامُ إلى يَثرِبَ سِرّاً ، يَصْحَبُهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيق ، بَعدَ أنْ كانَ قد طَلَبَ مِنْ أصحَابِهِ خِلالَ عامٍ أنْ يَخرُجُوا قَبْلَهُ مُتَفَرِّقِين ، حتى لا تَرُدَّهُمْ قُريش.
لقد تَحمَّلَ عليه الصَلاةُ والسَّلامُ مَشَقَّاتِ مُغَادَرَةِ البيتِ الوَادِع ، والحَرَمِ الذي نشَأَ على الطَّوافِ بِهِ ومِنْ حَولِه . وفي كلِّ ذلكَ مَسؤوليَّاتٌ هائلة ، لكنَّها هانَتْ عليه وعلى مِئاتِ المُؤمنين ، مِنْ أجلِ صَوْنِ إيمانِهم ، وَفَتحِ آفاقٍ أُخْرَى لِلدَّعوةِ والدِّين.
نحن نَتَذَكَّرُ الهِجْرَة ، بِاعْتِبَارِهَا تَجْرِبَةَ نَجَاح . لكنّهَا كَانَتْ أيضاً تَجْرِبَةَ نِضَال ، عَانَى خِلالَهَا المُسلِمُونَ مِنَ الاضْطِهَادِ وَالقَتْل ، وَمُغَادَرَةِ الدِّيَار ، لقد كانوا بَينَ أَحَدِ أَمْرَين: إِمَّا تَرْكُ الدِّين ، أو مُغَادَرَةُ الدِّيار . وَقَدِ اخْتَارُوا الإِصْرَارَ على دِينِهِم وَإيمَانِهِم ، مُقتَدِينَ بِرَسُولِهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه، عِندَمَا قال: (وَاللهِ لَو وَضَعْتُمُ الشَّمْسَ في يَمِينِي، وَالقَمَرَ في يَسَارِي ، عَلى أَنْ أَتْرُكَ هذا الأَمْر، مَا فَعَلْت، أَو أَهْلِكَ دُونَه) . لكنَّهُمْ في هذا الخِيَارِ الوَاعِي ، كَسَبُوا الأَمْرَينِ مَعاً : كَسَبُوا حُرِّيَّتَهُمُ الدِّينِيَّة ، وَكَسَبُوا أيضاً أَوطَانَهُمْ بِالعَودَةِ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَة ، أَحْرَاراً وَمُتَعَالِينَ عَنِ الاضْطِهَاد ، أَو مُلاحَقَةِ خُصُومِهِمُ السَّابِقِين ، فالهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ إذاً تُعطِينَا هَذَينِ المِثَالَين : أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالحُرِّيَّة ، يُكْسِبُنَا الدَّولَةَ الحُرَّةَ وَالقَوِيَّة ، كَمَا أنَّهُ يُكْسِبُنَا الدَّارَ وَالوَطَن ، وَالعَيشَ المُشتَرَك ، بَعِيداً عَنِ الاسْتِقْوَاءِ وَالافْتِرَاءِ وَالاسْتِئْثَار.
عندما كان نَبِيُّنَا وَرَسُولُنا وَقُدْوَتُنَا مُحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الذي نَفْتَخِرُ بهِ ونعتز ، يُقِيمُ الدَّولَةَ الجَدِيدَة، مَا اسْتَبِعَدَ أحداً ، وَلا تَحَدَّى قَرَارَ أَحَدٍ أَو حُرِّيَّتَه . وَمَا اسْتَعْمَلُوا وَقْتَهَا مُصْطَلَحَ العَيشِ المُشْتَرَك ، بَلْ سَمَّوُا الدَّارَ الجَدِيدَة ، دَارَ الجَمَاعَة ، وَدَارَ العَهْد، وَدَارَ العَقْد، وَدَارَ الأُمَّةِ الوَاحِدَة . وَلا مَعْنَى لِذَلِك ، إِلا مَا نُسَمِّيهِ اليَوم ، العَيشَ المُشْتَرَك. بَلْ إِنَّ كُلَّ البَاحِثِينَ الغَربِيِّينَ وَالمُسْلِمِين ، سَمَّوا كِتَابَ المَدِينَةِ أو صَحِيفَتَهَا دُستُوراً . وَهُوَ دُستُورٌ لِلاعْتِرَافِ بِالجَمَاعَاتِ المُخْتَلِفَة ، المُشَارِكَةِ في العَقْدِ وَالعَهْد ، وَلِتَنْظِيمِ التَّعَامُلِ فِيمَا بَينَهَا بِالقِسْطِ وَالإنْصَاف ، وَالعَدْلِ وَرُوحِ المحبةِ والتَّسَامُح .
إنَّ الهِجْرِةَ النَبَوِيَّةَ الشَّرِيفَة ، تَقَعُ في وَعْيِ المُسْلِمِين، بَينَ ثَلاثَةِ اعتبارات : اِستِمرَارُ الكِفَاحِ مِنْ أَجلِ حُرِّيَّةِ الدَّعوَة ، وَحُرِّيَّةِ القَولِ وَالعَمَل ، وَمُغَادَرَةُ الدَّارِ وَالمَوْطِن، مِنْ أَجْلِ إِحقَاقِ ذَلِك . وَالسَّعْيِ لِإقامَةِ (الأُمَّةِ مِن دُونِ النَّاس) التي أَعْلَنَ عَنهَا رَسُولُ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه ، في كِتَابِ المَدِينَةِ بَعدَ الهِجرَةِ مُبَاشَرةً . والاعتبارُ الثَّالِث : الاقتِدَاءُ بِتَجْرِبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في إِقَامَةِ الدَّولَةِ الجَامِعَةِ والقَوِيِّةِ والمُتَمَاسِكَة ، برغمَ الاخْتِلافِ الدِّينِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيّ ، وَتُؤَسِّسُ وُجُودَها وَقَرَارَاتِهَا على التَّعَاقُدِ الذي يُشْرِكُ الجَمِيع ، وَلا يَسْتَثْنِي فَرِيقاً أو أحداً إذا كَانَ مُوَافِقاً على المُشَارَكَة .
أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
نحنُ نعيشُ في لبنانَ أيَّاماً صَعْبةً ، ونَمُرُ في فَترَةٍ شَدِيدَةِ الضِّيقِ وَالحَرَج ، ونُعَاني منْ أَزماتٍ مُتراكمةٍ وكبيرة ، ونواجه يومياً تحدياتٍ كبيرةٍ متعددةٍ ومتنوعةٍ ، منها الاقْتِصَادِي والمَالي والأَمْنِي والمَعِيشي والاجْتِمَاعي .
ونُعَاني منْ أزماتٍ مُتراكمةٍ وكبيرة أهمَّها : عدم انتخابِ رئيسٍ جَدِيدٍ لِلجُمهُورِيَّة ، بَعدَ مُرُورِ عَامَيْنِ على خُلُوِّ وشُغُورِ الْمَنْصِب.
ونحنُ ناشَدْنا ونُنَاشِد القوى السياسية وكُلّ المَعْنِيين في إنْجَازِ الاستِحْقَاقِ الرِّئاسِي أن يَتَحَاوروا ويَتَشَاوروا ويُقَدِموا تَنَازُلاتٍ مُتَبَادَلَةٍ لِمصْلَحَةِ وَطَنِهم وللنُهوضِ بِالدْولةِ ومؤسَّسَاِتها ، وإلا فَإنَّ الدَّمَارَ والخَرَابَ سَيقْضِي على مَا تَبَقَّى مِنْ هَيْكلِ الدَّولة التي نَحْرصُ جَمِيعاً على بَقَائِها والنُّهُوضِ بِهَا ، ليَعِيشَ المُواطِنُونَ بأَمْنٍ وأَمَانٍ وسَلامٍ ، في رِحَابِ دَوْلةٍ وَطَنِيَّةٍ قَويَّةٍ عَادِلة ، وأَنَّ كًلَّ يومٍ نَعِيشُهُ في ظِلِّ هَذَا الوَضْعِ المَأْسَاوِيِّ وتَأْخِيرِ إِنْجَازِ الاسْتِحقَاقِ الرِّئاسِيّ سَيَدْفَعُ الوَطَنُ والمُواطِنُ ثَمَنَ هَذِهِ الحَالةِ المُزْرِيَةِ التي نَعِيشُهَا أمْنِياً وسِيَاسِيَّاَ واقْتِصَادِيَّاً واجْتِمَاعِيَّاً وَحَتَّى أخْلاقِيَّاً ، وهَذَا الأَمْر مَسْؤُولِيَّة يَتَحَمَّلها المُعَرْقِلُونَ لإِنْجَازِ الاسْتِحقَاقِ الرِّئاسِيّ أمَامَ الله سَبْحَانَهُ وتَعَالى وأَمَامَ اللبْنَانيين الذِينَ يُعَانُونَ مِنَ الكَوَارِثِ والأزمَاتِ الكبيرةِ والمُتَعَددة .
إِنَّ الدُّوَلَ العَربيّة الشَقِيقَة والدُّوَلَ الصَّدِيقَة مَشْكُورَة تُبَادِرُ وتَتِدَاعى لنُصْرَة وَمُسَانَدِةِ لبنان ، ويَنْبَغِي أَنْ تَتَوَاكَب هذه المُبَادَارات مِنَ اللبْنَانِيين وقِيَادَاتِهم وقِوَاهم السِّيَاسِيَّة ، وإنَّ اسْتِمْرَار التَنَاكُف والتَعَنُّت والعِنَاد والتَّحَدِّيَات المُتَبَادَلة والتَّصَلُّب في المَواقِفِ فهَذا أمْرٌ خَطِيرٌ يُنْذِرُ بانْهِيَارِ الوَطَنِ عَلى الجَمِيعِ ، وعِنْدَها لا يَنْفَعُ النَّدَم ، فلْنَتَقِ الله تَعَالى في وَطنِنَا وفي اللبنانيين جميعاً ، فَهُم يَسْتَحِقُّونَ الحَيَاةَ والسَّلامَةَ والأَمْنَ والأَمَان.
وحَذَارِي مِنَ المُتَرَبِّصِينَ بالأَمن الوَطَنِي والاجْتِمَاعِي والذِين يُرَوِّجُونَ الأَضَالِيل والأكَاذِيب والتُّرَّهَاتِ لإشْعَالِ الفِتَنِ والتَنَازُع والتَنَاحُر بَيْنَ اللبْنَانِيين ، وَكَفَى سَاسَتنا خُصُومَات ، عليهم أن يكونوا يَدَاً وَصَفَّاً وَاحِدَاً مُتَمَسَّكينَ بالدُسْتورِ واتفَاقِ الطَّائِفِ وبالثَوابِت والمصَالحِ العُلْيَا وبالوحدة الوطنيةِ فِي مُوَاجَهة الأَخْطَارِ المُحْدِقَةِ ببلدِنَا الحَبِيبِ لبْنَان .
في القرآنِ الكَرِيم، أَنَّ اللهَ تعالى أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالكِتَابِ وَالحِكْمَة. وَالْكِتَابُ إِلَهِيّ ، لَكِنَّ الحِكْمَةَ مِنْحَة رَبَّانِيَّة للإِنسَانِ ، وَتُمَثِّلُ العَقْلَ الجَمْعِيَّ لِلأُمَّة، بِإِلهَامٍ مِنَ اللهِ وَتَوفِيقِه، والْحِكْمَةُ مَطْلُوبَةٌ الآنَ وهِيَ قَرِينَةُ الشَّجَاعَة ، وَتَعْنِي الإِصْرَارَ على التَّوَافُقِ لِحِفْظِ الْمَصَالحِ وَالوَطَن ، إنَّ عَيشَنَا الْمُشْتَرِكَ هِبَةٌ من الله، آزَرَتْنَا العِنايَةُ الإلهِيَّةُ في إِقَامَتِهِ وَتَطْوِيرِه ، والاسْتِخْفَافُ بِهِ أَو تَجَاوُزُهُ تَهدِيدٌ فِعلِيٌّ لِما تبقَّى مِنَ التَماسُكِ والاسْتِمْرَارِ والاسْتِقْرَار.
في حَربِ العَامِ 2006 التي شنها العَدّو الصَّهيوني على لبنان اِستَطَعْنَا البَقَاءَ مَعاً ، وَمَعَنَا العَرَبُ وَالْمُجتَمَعُ الدَّولِيّ. وَلِذَلِك ، نَجَتِ البِلادُ مِنْ بَلاءٍ كَبِير. وَالْمُشكِلاتُ أَكْبَرُ الآن ، كَمَا أنَّ التَّضَامُنَ مَعَنَا أَقَلّ. لكنَّ الأَمْرَ لا يَخْلُو مِنْ عَطْفٍ على لُبنان ، تَشْهَدُ عَليهِ الزِّيَارَاتُ العَرَبِيَّةُ وَالدَّولِيَّة . وهذا الوَاقِعُ يَستَدْعِي تَضَامُناً دَاخِلِيّاً بِالفِعل ، تَضَامُنٌ مِنْ أَجلِ إِنهاءِ الحَرب ، وَتَضَامُنٌ مِنْ أَجلِ انتِخابِ رئيس ، وَتَضَامُنٌ لِوَقْفِ تَدَاعِيَاتِ الانقسام، الذي نَشْهَدُهُ في الرأْيِ العَامّ .
أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
إنَّ مَا قامَ ويقومُ به العدُوُّ الصُّهيونِيُّ المُغْتَصِبِ لأرْضِ فِلَسْطين العَربِيَّة ، مِنْ عُدوَانٍ على وَطَنِنَا لبنان ، هو عَمَلٌ إِرهاَبِيٌّ بامْتِياز ، لترهيبِ النَّاسِ في أمْنِهِم وَعَيشِهِم.
إنَّنَا في دَارِ الفَتوَى في الجمهوريَّةِ اللبنانية ، نَعتَبِرُ أنَّ ما يَقُومُ به العَدُوُّ الصُّهيونِيُّ قِي قُرى وبَلْداتِ الجَنُوب اللبْنَانيّ الصَّامِد وفي سَائِر المَنَاطقِ اللبْنَانِيَّة مِن تدْمِير وقَتْلٍ وَتهْجير ، هيَ جَرائِمَ حَرْبٍ مَوْصُوفة في حَقِّ اللبنانيينِ جَميعاً ، دَولةً وشَعباً ومُؤسَّسات ، وهذا يَتَطَلَّبُ وَعياً وَحِكمَةً وَدِراية ، في التَّعَامُلِ مَعَ هذا الأَمرِ الخطير ، الذي تَتَكَشَّفُ مَعَالِمُه يَوماً بَعدَ يَوم ، تمادياً بِالعُدوان ، لِيَصِلَ إلى المَنَاطِقِ اللبنانِيَّة كافَّة.
إنَّ صُمُودَ الشَّعبِ اللبنانيِّ حتَّى هذه اللَّحْظة ، في وَجْهِ العُدْوانِ اليَوْمِي الذي يُمارِسُهُ العدُوّ الصُّهيونِيُّ ، مُنتهِكاً القرارَ الدَّوليّ 1701 الذي خُرِقَ مِنْ قِبَلِ هذا العَدُوِّ مُنذُ صُدورِه ، هَذا الانتهاك ، أعطى البُرهَانَ على خطأِ الحِسَاباتِ التي راهنَ عليها الكِيانُ الصُّهيونِيّ، بانْهِيارِ التَّمَاسُكِ الوَطَنِيّ ، وشكَّلَ أيضاً مَزِيداً مِنَ الوَحدَةِ والتَّضَامُنِ بينَ اللبنانيين ، لِمُوَاجَهَةِ هذا الاعتداءِ السَّافِرِ على لبنانَ وَشَعْبِه . كما أنَّنَا نُنَبِّهُ مِنْ أَبعَادِ هذا العُدوان، الذي يَستهدِفُ هذه الوَحْدَة ، لاستِدراجِ لبنانَ وَالمَنطِقَة العَرَبِيَّة كُلّها ، إلى فِتنَةٍ لا تُبقِي ولا تَذَر . فَالوَحدَةُ الوَطَنِيَّة ، كانَتْ وَسَتَبقَى القَاعِدَةَ الأساس في مُقاوَمَةِ الاحتلالِ والعدوَانِ الصُّهيونِيّ .
أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
فِي ذِكْرى الهِجْرَةِ النَبويَّةِ الشَرِيفة والتي تَمُرُّ عَلَيْنَا هَذَا العَام ، وَنَحْنُ نَسْتَذكرُ مُعَانَاةِ رَسُولِنا الكَريم وَصَحْبِهِ الذِين آمنوا بِذَعوتِهِ ، وَمَا لاُقوْه مِنَ اضطهادٍ وحِصَارٍ وَتَرْهيبٍ وإيذَاء وقتْلٍ ، نَقِفُ بِأَلمٍ شَدِيدٍ أمَامَ مَا يَجْرِي مُنْذُ شُهورٍ لأَهْلِنَا عَلى أَرْضِ غَزَّةَ وَسَائِرِ فِلَسْطِينَ مِن إبَاداتٍ جمَاعِيَّة ومَجازر وَقَتْلٍ وَتَهْجِيرٍ وأنْتِهَاكٍ لِحُقًوقِ وكَرَامةِ الإنْسَان ، مِنْ قِبَلِ العَدوِّ الصُّهيونِيّ الذي مَارَسَ أَبْشَعَ الجَرائِم والمَجَازِرِ بِحَقِّ الأطْفَالِ والنِّسَاءِ والشُيوخِ والآمِنِين ، دُونَ وَازِعٍ مِنْ ضَمِيرٍ أَوْ أخْلاقٍ أَوْ إنْسانِيّة ، وَفِي ظِلِّ صَمْتٍ مُرِيبٍ وأَمَامَ أَعينِ العَالَمِ كلِّه ، مَدْعُومَاً منْ قِوى الاسْتِكْبارِ العَالمِيّ .
إنَنَا نَعْتَبِر أَنَّ القَضِيَّةَ الفِلَسْطِينية يَجِبْ ويَنْبغِي أَن تَبْقى قَضِيّة العَرَبِ والمُسْلِمِين الأُولى ، لأنَّهَا قضيَّةُ حَقٍّ وَعَدَالة .
إنَنا فِي لُبنَان مَعْ هّذِهِ القَضيّةِ الفِلَسْطينيةِ المُحِقَّةِ والعَادِلَةِ ، وَمع حَقِّ الشَّعبِ الفِلَسْطيني في تَحْرِيرِ أَرْضِهِ المغْتَصبَةِ ، وإِقامَةِ الدَّوْلةِ الفِلَسْطينيةِ على كَامِل تُرابِ أرْضِ فِلَسْطين ، وَعَاصِمَتُها القُدْس الشريف .
مِن لُبْنان تَحِيَّة اعْتِزَازِ وَتضَامُنْ مَعْ أَبْطَالِ الشَّعْبِ الفِلَسْطيني الصَّابِرين والمُقَاومِين والمُرابطِين فِي غَزَّة والمَسْجِدِ الأَقْصى وكُلِّ المُقَدَّسَاتِ الإِسْلاميَّةِ والمَسِيحيَّة ، وسَائِرِ الأَرَاضِي الفِلَسْطيتيّة .
أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
كانتِ الهِجرَةُ مَخْرَجاً مِنَ الانْسِدَاد ، ثُمَّ صَارَتْ فُرصةً لِمُجتَمَعٍ لِلسَّلامِ وَالتَّعَاوُن ، وَنَشْرِ الرَّحْمَةِ وَالتَّرَاحُم .
فَلْنَذْكُرْ دَائماً عُهُودَ القُرآنِ لِلسَّلامِ بَينَ النَّاس ، وَنَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَه ، أَنْ تَكُونَ هذه الْمُنَاسَبَةُ دَاعِيَةً لِلخَيرِ وَالوِئَام ، فَلا يُضْطَّرُّ أَحَدٌ مِّنا لِلهِجْرَةِ مِنْ وَطَنِه ، ولا لِلسُخطِ على زَمَانِه ، وَلْتَتَوَقَّفْ مُعَانَاةُ اللبنانِيِّينِ وَالعَرَبِ أَجْمعِينَ مِن شَرِّ الهِجرَةِ والتَّهْجِيرِ وَالقَطِيعَة .
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا ، وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ، فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
كلُّ عامٍ هجريٍ وأنتم أيُّهَا المُسْلِمون وأيُّهَا اللبْنَانِيُون بخير وسَلامْ وأمْنٍ وأَمَان .