الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المربي الأكبر معلم الناس آداب الإسلام، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
أمرنا الله تعالى بالسياحة في الأرض، والنظر والاعتبار في آلائه ودقة صنعه وتَدَبُّرِ آثار الأمم السابقة. فقال تعالى: ﭽ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَﭼ (20) سورة العنكبوت. وقال تعالى: ﭽ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﭼ (11) سورة الأنعام.
وللسفر فوائد كثيرة جمعها الشافعي رحمه الله تعالى في قوله:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلُى وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَة ٍ وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَة ُ مَاجِد
فعلى المسلم أن يسافر في طاعة الله تعالى؛ كما نذكره بأن الآخرين عندما يعلمون بأنه مسلم فإنهم يعتبرونه ممثلا وسفيرا للإسلام، فالمسلم المحب لدينه يغتنم الفرصة للدعوة إلى الله تعالى بتعامله مع الآخرين بمكارم الأخلاق ونشر القِيَم الإسلاميّة، ولا يرضى المسلم لنفسه أن يكون مفسدا لسمعة دينه.
وأسباب سفر المسلم متعددة، فهو يسافر للحج والعمرة، أو لطلب العلم، أو للسعي وراء الرزق، أو لزيارة قريب أو صديق، أو للسياحة والترويح عن النفس في طاعة الله تعالى، وغير ذلك.
من آداب وأحكام الاستعداد للسفر
أولاً: النية الصالحة: فالمسلم يجعل من سفره قربة إلى الله باستحضار النية الصالحة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّات……) رواه البخاري.
ثانياً: أن يكون السفر لما يحبه الله ويرضاه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ -يَعْنِي مِنْ بَيْتِهِ- إِلَّا بِيَدِهِ رَايَتَانِ، رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ) رواه أحمد.
ثالثاً: الاستشارة قبل الخروج للسفر: فالمسلم يشاور إخوانه فيما ينوي عمله من أمور؛ قال الله تعالى: ﭽ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰﭼ (38) سورة الشورى.
كما يستخير ربه، ويعمل بما ترتاح إليه نفسه بعدها؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) رواه أحمد.
رابعاً: قـضاء الديون ورد الودائع: فالمسلم يؤدي ما عليه من ديون وودائع، وغيرها من الأمانات قبل سفره، فإن لم يقدر على سداد الدَّين، فليستأذن المدين في الخروج، وهذا هدي النبي –عليه الصلاة والسلام- فعندما هاجر إلى المدينة ترك علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في مكة؛ حتى يؤدي الودائع إلى أهلها، فينبغي الاقتداء بهديه –صلى الله عليه وسلم- فالله يقول: ﭽ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﭼ (21) سورة الأحزاب.
خامساً: وصية الأهل: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) رواه البخاري ومسلم.
سادساً: اخـتيار رفيق السفر: فالمسلم يختار رفيقه في السفر من أهل الدين والتقوى؛ ليعينه على الطاعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) رواه ابو داود والترمذي. وقد قيل في الأمثال: اختر الرفيق قبل الطريق.
سابعاً: إعداد الزاد: حيث يحرص المسلم على إعداد الزاد والنفقة التي توصله إلى غايته.
ثامناً: يفضل السفر يوم الخميس: فقلَّ ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس” رواه البخاري.
تاسعاً: السفر أول النهار: فقد دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبركة لمن يبكرون في أعمالهم، فقال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا)، وكان إذا بعث سرية –عليه الصلاة والسلام أو جيشا بعثهم من أول النهار، وكان صخر –راوي هذا الحديث-رجلاً تاجراً وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله . رواه أبو داود والترمذي.
عاشراً: من آداب السفر الصلاة قبله: فالمسلم يحرص على صلاة ركعتين قبل سفره؛ إذ ورد في الأثر أنه:” مَا خَلَفَ عَبْدٌ عَلَى أَهْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ السَّفَرَ “. مصنف ابن ابي شيبة.
الحادي عشر: توديع الأهل والأصدقاء: فالمسلم يودع أهله عند سفره، ويوصيهم بخير، وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول للرجل إذا أراد السفر: هلم أودِّعك كما ودعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) رواه الترمذي وأحمد.
الثاني عشر: دعاء الأهل والأصدقاء للمسافر: فالمسلم يتمنى للمسافر التوفيق والسلامة، فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي، قَالَ: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: (وَغَفَرَ ذَنْبَكَ) قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: (وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ) رواه الترمذي. وفي المقابل ينبغي طلب الدعاء من المسافر؛ لأنه في موطن من مواطن إجابة الدعاء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ” سنن ابن ماجه
الثالث عشر: الدعاء عند الرحيل: ويقول عند الخروج من البيت: بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يدعو بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-(اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) رواه ابو داود.
الرابع عشر: تعلم أحكام المسافر منجمع وقصر ونحو ذلك.
ومن الآداب والأحكام بعد سفر المسلم
الخامس عشر: اتخاذ المسافرين قائدًا لهم من بينهم: حيث يشرع للجماعة المسافرة أن تختار واحداً منهم ليكون قائداً لهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) رواه أبو داود.
السادس عشر: أن يستفتح سفره بالدعاء والذكر: فقد كان رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: ({سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (13-14) سورة الزخرف.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ) وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ)رواه مسلم.
السابع عشر: مراعاة مشاعر الضعاف من المسافرين ومساعدتهم : فقد قال صلى الله عليه وسلم (أقدر الناس بأضعفهم) رواه الترمذي، وقد قيل: الضعيف أمير الركب.
الثامن عشر: حسن التعامل مع وسيلة السفر: فإذا كان السفر على دابة، فيجب عدم إرهاقها أو ضربها لتسرع في السير، فإن ذلك منافٍ للرحمة والرفق بالحيوان، كما أن العجلة من الشيطان، كما يتفقد المركبة ويحرص على أستيفائها شروط السلامة حتى لا يقع محذور .
التاسع عشر: مراعاة آداب الجلوس أثناء الركوب: فالمسلم يلتزم عند ركوب المواصلات بمجموعة من الآداب، منها:
– عدم فتح النافذة أو الباب إلا بعد استئذان المجاورين له.
– إذا تناول أحد المسافرين غذاءً أثناء السفر، دعا إليه المجاورين.
– عدم رفع الصوت بحديث خاص.
– ينبغي على الشاب أن يجعل خير الأمكنة للشيخ الكبير والمرضى والنساء.
– يراعي آداب الذوق العام، فلا يدخن ولا يبصق ولا يرمي بفضلات طعامه؛ حفاظًا على مشاعر من معه، وحفاظًا على نظافة المركبات.
– الإكثار من الدعاء والذِّكر: فالمسلم يكثر من الدعاء في سفره لنفسه ولإخوانه؛ لأن المسافر مستجاب الدعوة، ويكثر من الذكر، وإذا نزل واديًا قال: (سبحان الله) وإذا صعد مكانًا مرتفعًا قال: (الله أكبر)، وإذا نزل منزلاً دعا الله بقوله: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) رواه مسلم.
العشرون: من آداب السفر التفكر والاعتبار: فالمسلم يتفكر فيما يشاهده في سفره، ويتدبر في خلق الله؛ وذلك مما يزيد الإيمان.
الحادي وعشرون: مراعاة عادات أهل البلد: فإذا وصل المسافر إلى بلد ما، فعليه أن يراعي عادات أهلها وتقاليدهم؛ فلا يفعل ما يخالفها، ما دامت لا تخالف الشرع.
الثاني والعشرون: استعمال الرخصة أثناء السفر: حيث شرعت الرخصة للتيسير على الناس، وللمسافر أن يأخذ بها لما في السفر من مشقة، ومنها قصر الصلاة الرباعية: فيصليها ركعتين، ومنها الجمع بين الظهر والعصر (تقديمًا أو تأخيرًا) وكذلك بين المغرب والعشاء.
ويباح للمسافر الفطر في رمضان ويجب عليه القضاء؛ قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (184) سورة البقرة. ويباح له أيضاً ترك صلاة الجمعة ويصلِّيها ظهرًا، فلا جُمْعَة على المسافر.
الثالث والعشرون: الإسراع في العودة إلى أهله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ؛ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) رواه البخاري
من آداب وأحكام المسافر عند عودته
وعلى المسلم ألا ينسى عدة أشياء عند عودته، منها:
1- حمل بعض الهدايا عند العودة على قدر إمكاناته قال صلى الله عليه وسلم «تَهَادُوا تَحَابُّوا » البخاري في الأدب المفرد.
2- دعاء العودة وهو نفسه دعاء السفر، وقد سبق ذكره بتمامه.
3- الدعاء عند الاقتراب من بلده، فيقول: اللهم اجعل لنا به قرارًا ورزقًا حسنًا.
4- إرسال القادم من السفر إلى أهله من يخبرهم بمقدمه حتى يستعدُّوا للقائه؛ فلا يرى منهم ما يكره، أو يتصل بهم عن طريق الهاتف.
5- أن يبدأ بالمسجد، يصلي فيه ركعتين، فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. البخاري
وينبغي له استقبال من يزورونه وإكرامهم؛ فالمسلم يستقبل الذين جاءوا يُهَنِّئُونَه على سلامة العودة بالبِشْرِ والسرور، ويكرمهم قدر المستطاع.
6-عدم الإنخداع ببعض المظاهر البراقة في حياة الغافلين، فالسعادة أن تكون عبداً لله تعالى.
هذا ما تيسر جمعه من سنن السفر وأدابه، فيحسن بالمسلم أن يتحلى بها وأن يدعو إليها ليعم الخير في الأمة، ففيها اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.